التجربة السورية الرائدة في إيواء وتمكين الأيتام وأمهاتهم

07-10-2023
التجربة السورية الرائدة في إيواء وتمكين الأيتام وأمهاتهم ( حاضنات تربوية شاملة )
نموذج مبتكر للرعاية المؤسسية
مع انطلاق الثورة السورية وبدء الة القتل والتشريد على السوريين من قبل مليشيات الأسد برزت تحديات فريدة تواجه الأيتام وأمهاتهم، تستدعي حلولً طارئة اسعافيه لعوائل الايتام الذي عانوا من النزوح لحفظهم من الام النزوح ومن الايدي العابثة، وفي الوقت الذي تركز فيه غالبية الجهود على إيواء الأيتام بشكل منفصل، قدمت سوريا نموذجًا رائدًا يولي أهمية قصوى للحفاظ على النسيج الأسري وتمكين الأم كركيزة أساسية لاستقرار الأبناء، حيث أنه المتعارف بين العاملين في ملف الأيتام قبل الأزمة السورية، عند ذكر "دار الأيتام" يقتصر على دار تستقبل الأطفال فاقدي الأبوين أو مجهولي النسب، وتقدم لهم خدمات متنوعة، إلا أن مفهوم "دار الأيتام" في الملف السوري اتخذ منحى مختلفًا، حيث يعني إيواء الأيتام برفقة أمهاتهم ضمن بيئة حاضنة تربوية وتعليمية هادفة، وتعتبر عودة الأيتام إلى مقاعد الدراسة وتعليمهم جنبًا إلى جنب مع أمهاتهم، بالإضافة إلى تدريب وتأهيل الأمهات والأبناء، من الأولويات الأساسية لأغلب الدور السورية الحالية، حسب اطلاعي على الدور المتنوعة. ويفترض بشكل عام خروج الأسرة من الدار بعد مرور سنتين أو ثلاث، باستثناء حالات خاصة كأن تكون الأم من ذوي الاحتياجات الخاصة أو لديها أطفال صغار أو أبناء من ذوي الإعاقة، أو إذا كانت الأم غير قادرة على توفير الرعاية الكافية لأبنائها خارج الدار نتيجة لمشاكل نفسية أو غيرها، مما يخشى معه على مستقبل الأبناء.
تعد تجربة دور الأيتام السورية تجربة رائدة في مجال الإيواء، لم تسبقها إليها أي جمعية، بل نشأت نتيجة لجهود مخلصة من بعض المهتمين بشؤون أسر الأيتام، وقد تم استئجار مبانٍ في دول الجوار لإسكان هذه الأسر، ومع ذلك، ونظرًا لعدم وجود خبرة أو دراية كافية في إدارة مثل هذه التجمعات، وغياب القوانين والأسس المنظمة لهذه الدور، بالإضافة إلى نقص الأنشطة التعليمية والترفيهية والتدريبية، فقد نشأت مشاكل كبيرة كانت السبب الرئيسي في إغلاق بعض هذه الدور من قبل بعض الجهات الحكومية في دول الجوار، وذلك بسبب العدد الهائل من الشكاوى والمشاكل التي نتجت عن هذه التجمعات.
شخصيًا، كنت من المعارضين لدور الإيواء التي تعزل اليتيم عن مجتمعه، وخلال زياراتي لدور الأيتام، لاحظت وجود شكاوى وإشكاليات بين الأمهات والأبناء المقيمين، مما استدعى أحيانًا تدخل الجهات الرسمية، وكنت دائمًا أنصحهم بالجمع بين الإيواء والتعليم، وتنظيم أنشطة ترفيهية لسكان التجمع، مؤكدًا لهم دائمًا أن شغلهم بالخير والعلم والأنشطة والترفيه المباح أفضل من انشغالهم بأمور تعيق عملهم.
وفي نهاية عام 2014، اطلعت على ثلاث حالات مؤلمة تعرضت لها أمهات أيتام في إحدى المدن الكبيرة في إحدى دول الجوار نتيجة لظروف العمل والحاجة. قمنا بتشكيل لجنة من أخوات تربويات مهتمات برعاية الأيتام لتقصي أوضاع الأيتام واليتيمات وأمهاتهم اللاتي اضطررن للعمل في المصانع وغيرها، وقد وقفنا على أمور مؤلمة كانت الدافع وراء تفكيرنا في إنشاء دور للأيتام تجمع بين الإيواء والتعليم المدرسي والشرعي والمهني والأنشطة المتنوعة، تم تكليف كوادر نسائية مؤهلة إداريًا ونفسياً وتعليميًا وتربويًا بالإشراف على الأمهات والفتيات والأيتام الذكور دون الثامنة، وتكليف كوادر رجالية مؤهلة إداريًا ونفسياً وتعليميًا وتربويًا من ذوي الكفاءة العالية والمقدرة على تقديم نموذج إيجابي للأبناء الأيتام فوق الثامنة.
أسباب نشوء هذه التجربة الرائدة:
سبب نشوء هذه التجربة الرائدة لم يكن وليد الصدفة، بل كان استجابة ضرورية للظروف الإنسانية الصعبة التي فرضها النزاع في سوريا، فقد أدى إلى تزايد كبير في أعداد الأيتام والأرامل اللاتي اضطررن للنزوح هربا من القتل ووجدن أنفسهن في مواجهة تحديات جمة لتأمين حياة كريمة لأبنائهن، وقد أدرك بعض الغيورين على عوائل الأيتام الحاجة إلى حلول مبتكرة تحمي هذه الأسر من التفكك والاستغلال والعوز، وتوفير بيئة أسرية بديلة لهؤلاء الأطفال وامهاتهم وتحافظ على روابطهم بأمهاتهم قدر الإمكان، كما أن الإدراك بأن النموذج التقليدي لدور الأيتام قد لا يلبي بشكل كامل الاحتياجات النفسية والاجتماعية ا لمعقدة لهؤلاء الأطفال وأمهاتهم، دفع إلى التفكير في بدائل أكثر شمولية واستدامة.
هذه التجربة، التي نشأت من رحم الحاجة وإحساس المسؤولية، تقدم مفهومًا مبتكرًا لـ دار الأيتام يتجاوز مجرد توفير المأوى ليصبح حاضنة تربوية واجتماعية واقتصادية متكاملة، تستهدف تمكين الأسرة بأكملها وإعادة دمجها مع المجتمع.
التحديات والتطور:
لم تخلُ بداية هذه التجربة الرائدة من التحديات، فمع استئجار مباني في دول الجوار لإيواء هذه العوائل، واجه القائمون على الأمر نقصًا في الخبرة والدراية في إدارة هكذا تجمعات كبيرة، وغيابًا للقوانين والأسس المنظمة لهذا العمل، وعدم وجود خبرة كافية، ونقص الموارد المالية، بالإضافة إلى محدودية الأنشطة التعليمية والترفيهية والتدريبية، وقد أدت هذه التحديات في بعض الأحيان إلى مشاكل اجتماعية ونفسية بين الأمهات والأبناء، ووصلت في بعض الحالات إلى تدخل الجهات الرسمية في دول الجوار نتيجة للشكاوى والإشكالات المتعددة، وقد كان لجمعية الشام لرعاية وكفالة الأيتام دور كبير لوضع الأسس والبرامج واستدراك هذه التحديات وتجاوزها وتطوير التجربة وتحسينها تدريجيًا من خلال التعلم من الأخطاء، وتبادل الخبرات بين القائمين على الدور المختلفة، والاستماع إلى شكاوى وإشكالات الأمهات والأبناء كجزء أساسي من عملية التحسين المستمر.
المبادئ الأساسية التي قامت عليها دور الأيتام السورية:
إن مصطلح دار الأيتام السورية، كما تجلى في هذه التجربة الرائدة، لا يعني مجرد إيواء الأطفال فاقدي الأبوين أو مجهولي النسب في مؤسسة تقدم لهم الخدمات الأساسية، بل يتعدى ذلك ليصبح نموذجًا للرعاية الأسرية المؤسسية أو الإيواء الأسري الداعم، حيث يتم إيواء الأيتام مع أمهاتهم ضمن حاضنات تربوية ونفسية واجتماعية واقتصادية متكاملة، تقوم هذه الحاضنات على مجموعة من المبادئ الأساسية، من أبرزها:
- الحفاظ على وحدة الأسرة: عدم فصل الأيتام عن أمهاتهم إلا في حالات استثنائية تمليها مصلحة الطفل الفضلى القصوى، مع السعي دائمًا لتعزيز الروابط الأسرية.
- التمكين المستدام للأم: توفير برامج تعليمية وتدريبية وتأهيل نفسي واجتماعي واقتصادي شاملة ومستمرة للأمهات، بهدف تعزيز قدراتهن واستقلاليتهن وضمان استدامة وضعهن الاقتصادي والاجتماعي.
- التعليم المتكامل والمستمر للأيتام: التركيز على توفير تعليم مدرسي ذي جودة عالية، بالإضافة إلى التعليم الشرعي والقيمي، والتدريب المهني المستمر لتنمية مهاراتهم وقدرتهم على المنافسة في سوق العمل مستقبلًا.
- البيئة التربوية الآمنة والداعمة والمستقرة: خلق بيئة مستقرة ومحفزة للنمو السليم والمتكامل للأطفال والأمهات على حد سواء، مع التركيز على الاستقرار العاطفي والنفسي على المدى الطويل.
- الدمج المجتمعي التدريجي والمستدام: الهدف النهائي هو إعادة دمج الأسر في المجتمع بشكل تدريجي ومستدام، بعد اكتسابهم القدرة على الاعتماد على الذات والمساهمة الإيجابية في محيطهم على المدى الطويل.
هذا النموذج المبتكر يسعى إلى معالجة الآثار السلبية المحتملة لعزل اليتيم عن بيئته الأسرية والمجتمعية، مع توفير الدعم الشامل والمستمر الذي تحتاجه الأسرة للنهوض من جديد وبناء مستقبل مستقر ومزدهر.
الأسس التربوية والإدارية للنموذج السوري:
مع تطور التجربة السورية، تم وضع أسس تربوية وإدارية تهدف إلى تحقيق أقصى قدر من الفائدة للمقيمين في هذه الحاضنات. من أبرز هذه الأسس:
- فصل الإشراف بين الجنسين مع الكفاءة: حيث تم تكليف كوادر نسائية مؤهلة إداريًا ونفسياً وتعليميًا وتربويًا بالإشراف على الأمهات والفتيات والأيتام الذكور دون الثامنة، وتكليف كوادر رجالية مؤهلة إداريًا ونفسياً وتعليميًا وتربويًا من ذوي الكفاءة العالية والمقدرة على تقديم نموذج إيجابي للأبناء الأيتام فوق الثامنة.
- التعليم الشامل والمتكامل: توفير برامج تعليمية متنوعة تشمل التعليم المدرسي النظامي مع وجود دروس تقوية للأبناء المنقطعين عن الدراسة، بالإضافة للاهتمام بالتعليم القيمي الذي يعزز الهوية والقيم الإيجابية، والتعليم المهني والتقني الذي يساهم في اكتساب مهارات قابلة للتطبيق في سوق العمل ويساعد في اكتساب مهارات تساهم في مستقبلهم.
- برامج التأهيل والتدريب المتنوعة للأمهات: تصميم برامج خاصة للأمهات تهدف إلى تأهيلهن نفسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، وتمكينهن من الاعتماد على الذات.
- الأنشطة الترفيهية والاجتماعية المنظمة: توفير أنشطة ترفيهية وثقافية ورياضية تساهم في تعزيز الترابط الأسري والتفاعل الإيجابي بين الأمهات والأبناء.
- آليات المتابعة والتقييم الفردية: وضع آليات لمتابعة وتقييم وضع كل أسرة واحتياجاتها بشكل فردي، لتقديم الدعم المناسب لكل حالة.
- خطة الخروج التدريجي المدروسة: وضع خطط فردية لكل أسرة للانتقال تدريجيًا إلى حياة مستقلة في المجتمع، مع توفير الدعم اللازم خلال هذه المرحلة.
رسالة إلى العاملين في المجال الخيري والإنساني:
إن التجربة السورية الرائدة في رعاية الأيتام وأمهاتهم تحمل في طياتها رسالة هامة لجميع العاملين في المجال الخيري والإنساني حول العالم، إنها تدعونا إلى التفكير الإبداعي وتجاوز الحلول التقليدية، والسعي نحو تطوير نماذج مبتكرة وشاملة تستجيب بشكل فعال للاحتياجات المعقدة للفئات المستضعفة، إن الاستفادة من الدروس المستخلصة من هذه التجربة وغيرها من المبادرات الرائدة يمكن أن يسهم في إحداث تغيير حقيقي ومستدام في حياة المحتاجين.
الاستدامة والحلول:
يجب أن يكون التركيز دائمًا على بناء حلول مستدامة تضمن استمرار الرعاية والتمكين للأيتام وأمهاتهم على المدى الطويل. إن تجاوز الاعتماد على المساعدات قصيرة الأجل والسعي نحو تمكين الأسر ليصبحوا منتجين ومعتمدين على الذات هو الهدف الأسمى لأي عمل خيري وإنساني فعال.
دور الشراكات والتعاون:
إن نجاح وتوسع نطاق هذه النماذج المبتكرة يعتمد بشكل كبير على بناء شراكات قوية وتعاون فعال بين مختلف الجهات الفاعلة، بما في ذلك المنظمات المحلية والدولية، والحكومات، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، كما أن تضافر الجهود وتبادل الخبرات والمعرفة يسهم في تحقيق أهداف مشتركة بكفاءة وفعالية أكبر.
وللأسف الشديد، تعرضت هذه التجربة للظلم من قبل البعض ممن لم يطلعوا على واقع الأيتام عن قرب في الدور وخارجها، ولم يدركوا المعاناة التي تواجهها أم اليتيم من ابتزاز وتحرش وإيذاء نتيجة لحاجتها للعمل لإعالة أبنائها.
والحقيقة أن الحكم على هذه التجربة يجب أن يستند إلى دراسة متعمقة لها عن قرب، ومعرفة جوانبها الإيجابية والسلبية، وعدم الاكتفاء بالحكم بناءً على المفهوم العام لدور الإيواء، حيث أن الصورة الذهنية السائدة دائمًا هي أن دور الأيتام عبارة عن عزل للأطفال عن مجتمعهم وأقاربهم وضمهم في مؤسسة ترعى مصالحهم واحتياجاتهم، وهذا المفهوم هو المتعارف عليه عالميًا في العالم العربي والإسلامي والعالم.
شكر وتقدير:
نتقدم بخالص الشكر والتقدير لجميع الأفراد والمنظمات والمؤسسات التي ساهمت في إنجاح هذه التجربة الإنسانية النبيلة والمستدامة، من المبادرين الأوائل الذين وضعوا اللبنة الأولى، إلى الكوادر العاملة والمتطوعين الذين بذلوا جهودًا مضنية ومستمرة، وصولًا إلى الداعمين الذين آمنوا بالرؤية وقدموا العون المادي والمعنوي. إن تضافر جهودكم هو الذي أضاء شمعة الأمل في حياة الكثير من الأيتام وأمهاتهم ومنحهم فرصة لبناء مستقبل أفضل وأكثر استدامة.
ختاماً:
إن التجربة السورية الرائدة في إيواء وتمكين الأيتام وأمهاتهم تمثل منارة أمل ونموذجًا يحتذى به في مجال العمل الخيري والإنساني. لقد أظهرت أنه حتى في أحلك الظروف، يمكن للإبداع والتفاني والرؤية الاستراتيجية أن تؤدي إلى تطوير حلول مبتكرة وفعالة ومستدامة تلبي الاحتياجات المعقدة للفئات الأكثر ضعفًا، ندعو جميع العاملين في هذا المجال والجهات المعنية إلى استلهام هذه التجربة ودراستها بعمق، والسعي لتبني نماذج مماثلة ترتكز على الاستدامة والتمكين الشامل، بهدف بناء مستقبل أكثر أمانًا وكرامة للأيتام والأسر المحتاجة حول العالم.
إن الاستثمار في حياة هؤلاء الأفراد وتمكينهم على المدى الطويل هو استثمار في مستقبل مجتمعاتنا بأكملها.
كتابة وإعداد محب وخادم الأيتام:
محمد شندي الراوي
رئيس مجلس إدارة وقف دعم الأيتام
مدير عام جمعية الشام لرعاية وكفالة الأيتام